قصر البارون .. قصة قصر ومآساة عائلة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
إذا رأيته تنبهر بطرازه المعماري المتميز، وتعجبك أبراجه بشكلها العجيب
الغير مألوف في الحضارة في المصرية، وإذا اقتربت منه تنتابك كئابة عجيبة
ووحشة غامضة، فتتنازع مشاعرك ما بين إقدام وإعراض عنه .. إنه قصر البارون.
لم يكن (إدوارد جوزيف لويس إمبان) يعلم أنه من الممكن أن يتعلق بحب بلد غير
موطنه مثلما أحب مصر، لدرجة أن يتخذ فيها مستقراً ثابتاً له، غير أن يوصي
بدفنه فيها إذا مات، بل يؤكد أن يتم دفنه فيها حتى ولو مات خارج مصر،
وتحققت أمنيته الأخيرة وتم دفنه بكنيسة البازليك بمصر الجديدة في مصر.
(إدوارد إمبان) أو كما اشتهر عالمياً باسم (البارون إمبان) مهندس ورجل
صناعة ورجل أعمال بلجيكي، اشتهرت أسرته بإنشاء مشاريع السكك الحديدية
الضخمة، ولم يحيد هو الطريق عنهم، فاختار نفس الصناعة له، وجاب العالم يبرز
مهارته الفنية في الأداء، ودقته في التنفيذ، حتى ساهم بإنشاء مترو باريس،
ولقاء هذا المجهود حصل على لقب بارون عام 1907، وظل ملازماً له، حتى بعد
مماته.
جاء (البارون إمبان) إلى مصر عام 1904 في سياق إنشاء خط سكة حديد يربط بين
المطرية والمنصورة، وبعد الانتهاء من إنشاء هذا الخط، استبد به عشق
المحروسة، فقرر البقاء فيها.
أثرت فيه تلك المنطقة الصحراوية المتاخمة للقاهرة القديمة، والتي علم من
التاريخ الفرعوني أنها كانت مدينة قديمة اسمها هليوبوليس، فقرر بناء هذه
المدينة على الطراز المعماري الأوروبي، واختار لشركته نفس الاسم، فسميت
شركته باسم (شركة واحة هليوبوليس Heliopolis Oasis Company) وبدأ على أثرها
يبني مدينة باريسية في القاهرة، كما تمنى يوماً الخديوي (إسماعيل).
كانت الطرز المعمارية وقتها بالفعل تميل بشدة إلى الحضارة المعمارية
الأوروبية، مع الكثير من الدمج بينها وبين فن العمارة الإسلامية، وكان هذا
يتوافق مع رأي (البارون إمبان) بشأن إنشاء مصر الجديد، فقد أراد لها أن
تكون قطعة من أوروبا في كل شيء بدون أن تفقد طابعها الإسلامي الثري، وقد
يلاحظ من يزور مصر الجديدة، أن كل كنائسها محتفظة بالطابع الأوروبي حتى
الآن، وبعض من مبانيها كذلك. وكان فكر (البارون إمبان) متوجه إلى أن الطبقة
الأرستقراطية في مصر يجب أن يجمع شملها مكان مختلف عن زحام وسط البلد،
فاختار تلك الصحراء – حينها – ا لمتاخمة للمدينة واشترى 25 فدان من هذه
الصحراء، بسعر جنيه واحد للفدان، وهو مبلغ كبيرة نسبياً في تلك الفترة
بالنسبة لأرض صحراوية، وبدأ في بنائها.
بدأ(البارون إمبان) بإنشاء البنية التحتية للمنطقة، فسهل لها وصول المياه
والكهرباء والصرف الصحي، وحتى يكتمل مشروعه، قام بتوصيل 3 خطوط للترام
تنتشر في أماكن مختلفة من مصر الجديدة، حتى يسحب الناس إلى القدوم إليها من
وسط العاصمة. ثم قام ببناء قصر هليوبوليس بالاس الذي تحول الآن إلى قصر
الرئاسة، وكذلك قام بإنشاء ملاعب الجولف، ومضامير سباق الخيول، والمنتجعات
الصحية، والكثير من المباني الراقية التي مازالت حتى الآن تحتفظ برونقها
وتميزها المعماري، وتستطيع ملاحظة ذلك من أماكن مثل (جروبي) مصر الجديد،
وكذلك (الامفتريون).
ثم تحفته المعمارية الخالدة .. قصر البارون.
والقصر بدأت قصته حينما عشق البارون مصر وقرر أن يستقر فيها، فبدأ البحث عن
شكل معين للقصر الذي ينوي الاستقرار فيه .. وتصادف مع ذلك زيارته لمعرض
المعماري المتميز (ألكسندر مارسيل) فوجد من ضمن المعروضات ذلك النموذج الذي
عليه القصر الآن، فأعجبه للغاية واشتراه منه، وبدأ بناء قصره، وعهد به إلى
البناء الهندي (جوسبار)، و استخدم فيه المرمر والرخام الإيطالي، والزجاج
البللوري البلجيكي.
القصر في طرازه المعماري يجمع بين فن النهضة الحديثة في أوروبا، والطراز
الكمبودي الهندي المميز للمعابد الكمبودية في الهند، فتنتشر في واجهات
القصر من الخارج الفيلة الهندية، وتماثيل تمثل بوذا وشيفا، والكثير من
التماثيل المختلفة. وتم بناء القصر من طابقين، الطابق الأرضي به قاعة واسعة
للضيوف والحفلات، وصالة للعب البلياردو، وممر إلى السرداب وحجرات الخدم
والجراج. بينما الطابق الثاني به 4 غرف واسعة، كل غرفة لها حمام مستقل،
والقصر في إجمالي مساحته بالحديقة تم بناؤه على مساحة قدرها 12500 متر
مربع.
أما أفضل مكان في القصر، وقد أثار الكثير من الإعجاب، فهو برج القصر الذي
زوده (البارون إمبان) بخاصية فريدة لم يسبقه فيها قصر في مصر، حيث أن هذا
البرج يدور حول نفسه دورة كاملة كل ساعة، وبالطبع لم تعد هذه الخاصية في
القصر الآن بعد كل هذه الأعوام، بل إن هناك من ينفي وجودها من الأساس.
والقصر في مجمله، صغير الحجم نسبياً ولكن حديقته واسعة تعادل مساحته مرتين
على الأقل، وتم تصميمه بذكاء شديد حتى لا تغيب عنه الشمس طوال اليوم.
بالقصر حديقة خلفية ملآى بالزهور والنباتات النادرة التي كانت تعتبر في
وقتها درة من درر القصر، بالإضافة إلى حديقته الواسعة، والفراغ الكبير
المحيط به – صحراء مصر الجديدة وقتها – أضاف على القصر تفرداً وطابع لا
يمكن تغاضي العين عنه، يجمع بين الإعجاب والرهبة .. وهذا هو الإحساس العام
الذي يتملكك حينما تنظر إلى القصر .. فأول ما ينتابك من أحاسيس هو الإعجاب
الشديد بمعمار القصر، وشكله الغريب، ومصاحب لهذا الإعجاب نفور عجيب لا
تستطيع تفسيره، وهذا النفور أجمع عليه كل من رأى القصر.
ويحيط بالقصر شؤم عجيب ارتبط بـ(البارون إمبان) .. فعلى الرغم من أن غرض
بناء القصر هو استقرار البارون فيه، فقد كان هذا القصر سبب هرب البارون من
مصر، على الرغم من عشقه لها، وميله إلى الاستقرار والموت فيها.
تعود القصة إلى صداقة قديمة نشأت بين (البارون إمبان) و(باغوص نوبار باشا) –
ابن أول رئيس وزراء لمصر (نوبار باشا) – والأمير حسين كامل من الأسرة
الحاكمة.
وحينما تم بناء القصر عام 1911ودعا إليه البارون الجميع ومن ضمنهم أصدقاءه
القدامى، انبهروا جميعاً بفخامة القصر وتصميمه، ودقة بناؤه، وخاصة الأمير –
آنذاك – (حسين كامل)، وأوعز إلى (البارون إمبان) أن يقوم بإهداء القصر
إليه، حتى طلبها صراحة، لكن البارون رفض بأدب، ووعد الأمير أن يبني له قصرا
آخر، وبالفعل أتم بناء قصر مصر الجديد له (مدرسة مصر الجديدة للبنات
حالياً) ولكن هذا لم يرض (حسين كامل)، وخشى البارون على نفسه، وخاصة بعد أن
تولى الأمير (حسين كامل) حكم البلاد وأصبح سلطاناً، ففر هارباً من بطشه
وترك القصر في رعاية الخدم.
ولم يعد البارون إلا بعد وفاة السلطان حسين كامل (توفى عام 1917) وعاد إلى
الاستقرار في القصر منذ عام 1919 وكان معه فيه أخته البارونة (هيلانة)
وإبنته (مريام) .. ومن هنا بدأت المأساة.
كان من يصف (البارون إمبان) في سلوكياته الشخصية مع أفراد أسرته يذكر أنه
كان فظاً غليظاً قاسياً، إذ لم يكن أخاً طيباً، ولا أباً رحيماً، وكثيراً
ما كان يسمعه الخدم يتشاجر مع أخته أو ابنته دون أن يجرؤ أحدهم على استطلاع
الأمر. ولم يكن في البارون علة ما غير عرج واضح في قدمه، ورثته عنه ابنته
(مريام) في صورة مرض شلل الأطفال، الذي زاد من معاناتها.
حتى جاء ذلك اليوم المشئوم الذي سقطت فيه أخته من فوق البرج، ويقول من يروي
القصة أن البرج توقف عن الدوران من بعد هذا اليوم، وكأنه حزن لفراقها.
ولكن يبدو أن (البارون إمبان) لم يحزن مثلما حزن برج قصره، فقسوته وغلظته
على ابنته لم تتوقف، ووجدت الفتاة البائسة نفسها وحيدة بعد وفاة مؤنستها في
القصر، ومن كان يصبرها ويؤازرها ضد أبيها، فساءت حالتها للغاية، وأصبح
ينتابها نوبات صرع وهياج نفسي، وسمعها الخدم مراراً وتكراراً تحدث نفسها
بصوت عال في سرداب القصر، الذي تقضي في الساعات الطوال، تخرج بعدها منه
متحسنة المزاج، تقول أنها كانت تحادث صديقاً عزيزاً يريحها كثيراً الحديث
معه.
وانتهت المأساة باختفاء (مريام) ذات صباح .. بحث عنها الخدم في كل مكان،
وساروهم ظن أنها هربت من تلك الحياة الكئيبة إلى مكان أرحب .. وكانت الفتاة
قد هربت بالفعل .. ولكن إلى مكان آخر.
فبعد بحث مضني عثر الخدم على جثة (مريام) ملقاة على وجهها في بئر مصعد
الطعام، وقد فارقت روحها جسدها .. هربت الفتاة بالفعل .. ولكن إلى الدار
الآخرة.
كان هذا الحادث كافياً لتتحول حياة البارون إلى مأساة، وليكره القصر،
ويغادر على أثره مصر، فلا يعود لها إلا في تابوت ليتم دفنه – حسب وصيته –
في الكنيسة التي بناها .. كنيسة البازليك. ومازال هناك حتى الآن من يومها،
منذ عام 1929.
حياة مثل هذه الحياة، مع مثل هذا الشخص، في مثل هذا القصر، كانت مادة خصبة
لتُنسج حولها عشرات الأساطير، منها مثلاً أن القصر مشئوم، وأنه يجلب النحس
لكل من يمتلكه، ومنها أن البارون نفسه كان مريض نفسياً وأنه هو الذي قتل
أخته وابنته، وأنها كان عالماً بتحضير الأرواح، وكان يقوم بتحضير روح أخته
ليطلب منها الغفران، وأن خدمه كانوا يسمعونه كثيراً وهو يحدث نفسه في
غرفته، ومنها أن القصر مسكون بالأشباح حتى الآن ..وغيرها الكثير.
ومما ساهم في مثل هذه الخرافات، حادث شهير جداً حدث في مصر مرتبط بهذا القصر في شهر رمضان من منتصف التسعينات .. حادث عبدة الشيطان.
فقد ألقت الشرطة المصرية على بعض الشباب في هذا القصر يمارسون بعض الأمور
المشبوهة، كالتجمع في ليال معينة، والرقص على أنغام غربية مزعجة تميزت
بالضجة Black Metal، وبعض الأمور الأخرى التي لم تثبت إلا من قبل الشرطة ..
وكانت قضية مدوية وقتها عُرفت بقضية عبدة الشيطان.
شدة الإهمال في القصر وعدم العناية به كل هذه السنوات، حول حاله من سيء إلى
أسوأ، فلو أتيحت لك فرصة لتدخل القصر، ستجد الكثير من التآكل في الجدران
والكلمات المكتوبة بشكل همجي على الجدران، يشي بأن القصر كان مرتعاً لكل من
يريد مغامرة قصيرة، ولا تجد حائطاً من حوائط القصر إلا أصابه التآكل. وكان
السور الذي يحيط به هشاً يغري بالدخول في أي وقت، وكانت الحديقة المحيطة
به مهملة، معظمها أرض جرداء ..
ولكن منذ يوليو 2007 آلت ملكية القصر إلى هيئة الآثار بقرار رقم 1848 من
وزارة الإسكان، التي قامت بتسوية أمر القصر مع حفيد (البارون إمبان) مقابل
إعطاءه مساحة أرض بالقاهرة الجديدة ليقيم عليها مشاريع استثمارية.
تم الاعتناء بالشكل الخارجي للقصر، والحديقة حتى يصبح شكله مقبولاً من
الخارج، ولكنه مازال يحتاج الكثير داخلياً حتى يعود إلى سابق عهده.
ومازال القصر حتى الآن قابعاً في مكانه، يبث لك الإحساسين المتناقضين
بالإعجاب والانقباض كلما رأيته، ويحمل في طياته أسرار مأساة لا ندري حتى
الآن وجه الحقيقة فيها.
للمشاركة انت بحاجه الى تسجيل الدخول او التسجيل
يجب ان تعرف نفسك بتسجيل الدخول او بالاشتراك معنا للمشاركة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى