من كنوز السنة الصحيحة -1- النميري بن محمد الصبار
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
- M I R O
-
عدد المساهمات : 850
نقاط : 1521
تقييم العضو : 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الحَديثُ الأَوَّلُ
مَفهومُ الجمالِ وَالكبرِ في ميزانِ الشَّريعةِ
أَوَّلاً : نصُّ الحديثِ :
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِىِّ -صَلى الله عليه وسلم- قَال : «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ». قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ»(1).
ثَانياً : الفوائدُ المستنبطةُ مِنَ الحديثِ :
1-الكِبرُ على نوعينِ: أحدِهما: الكبرِ المباينِ للإيمانِ في أصلهِ ، وهُوَ المُذهبُ لهُ بالكُلِّيَّةِ، وصاحِبُه مُخلَّدٌ في نارِ جهنَّمَ عِياذاً باللهِ ؛ كما قال تعالى في شأنِ الكافرين: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}[الجاثية : 31] ، وهو الواقعُ في كِبرِ إبليسَ ؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة : 34] ، وكِبرِ فرعونَ-أخزاهما اللهُ- ، وفي هذا يقول تعالى: {... إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر : 60] ، وكِبرِ اليهودِ ؛ كما قال تعالى في شَأنِهم: {... أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}[البقرة: 87] .
والآخرِ: الكبرِ المباينِ للإيمانِ الواجبِ الذي لا يستوجبُ دخولَ صاحبهِ في النَّارِ بالكُلِّيَّةِ ، ولكنَّهُ مَتوَعَّدُ بالعذابِ ؛ كما في الحديثِ : (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ) ؛ فإنَّ هذا الكِبرَ موجبٌ لجحدِ الحقِّ الذي ينبغي الإقرارُ بهِ ، ومُوجبٌ لاحتقارِ النَّاسِ ؛ فيكونُ بِذا ظالماً مُعتدياً لهم(2) .
2-في الحديثِ إثباتُ اسمٍ عَظيمٍ مِنْ أَسماء اللهِ الحسنى ؛ ألا وهُوَ (الجميل) ؛ كَما قَرَّرَ ذَلكَ أَهلُ العلمِ(3) .
وَ(الجميلُ) صِيغةُ مبالغةٍ عَلى الوزنِ فعيلٍ ، وَهُو المنتهى في الجمالِ والغَايةُ فيه وَمعناهُ: الغَايةُ في الحُسنِ وَالذَّروةُ فيهِ(4).
3-الفقه الإيماني العقدي لهذا الاسم العظيم يتمثَّل في أن الله جلَّ جلاله جميلٌ في ذاته وجميل في أسمائه وجميل في صفاته وجميل في أفعاله ؛ ومن ثَمَّ يؤمن العبد بهذا كله إيماناً يعقدُ قلبه عليه ؛ فهذا هو الفقه الإيماني العقدي معرفةً بالله وعلماً بأسمائه الحسنى وصفاته العلى(5).
4-أَمَّا الفقه السلوكي فَقائمٌ في محبة العبد المؤمن للجمال الذي يُحبه الله ، وتعبُّده له به(6).
غَيرَ أنَّ السؤال المهم هاهنا : ما هو هذا الجمال الذي يحبه الله ؟ وكيف يُعرفُ ؟ وما أقسام الناس فيه ؟
الجواب على هذا السؤال المهم ينبني على أصل عظيم عند أهل السنة وهو أنهم يُوحِّدون الله جل وعلا بنوعي التوحيد: الربوبية والألوهية ؛ فيؤمنون أنَّه سُبْحَانَهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَكَلُّ مَا فِي الوجودِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ فَبقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِه ، ويؤمنون كذلك بألوهيته الَّتي اخَتصَّ بها عبادَه المؤمنينَ، الَّذين عَبدوه وأطاعَوا أَمرَه، واتَّبعوا رُسَلَهُ ؛ كما قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف : 54] ؛ ولذلك يعتقد أهل السنة أنَّ ما يقدره الله خلقاً وكوناً فيه ما يحبه ويرضاه ، وفيه ما يبغضه ويسخطه ، والحاكم في ذلك شرعه ودينه على ألسنة رسله بما أنزله من كتبه، وهذا هو الصراط المستقيم الذي وضعه الله آمراً إيَّانا باتباعه والسَّير عليه .
وأما غُلاةُ الصوفية فإنهم يؤمنون بنوع واحد من أنواع التوحيد وهو توحيد الربوبية ، ومن هنا يعتقد غُلاةُ الصوفية أَنَّ كل ما يقدره الله خلقا وكوناً فهو مِمَّا يُحبُّه ويرضاه وليس فيه ما يبغضه ويسخطه ، وهذا غاية الانحراف والضلال-عياذاً بالله- الذي أمرنا الله باجتنابه ونهانا عن السير فيه(7) .
إذا فهمنا هذا الأصل العظيم ؛ فأقولُ وبالله التوفيق جواباً عن التساؤل المطروحِ آنفاً:
إنَّ الجمال الذي يحبه الله ليس كما يعتقدُ غُلاةُ الصوفية أَنَّه بإطلاقٍ ؛ وإنما هو الموافق لدينه والمقيَّدُ بشريعته ، ومنه أن يكون نعل الإنسان حسناً وثوبه حسناً ؛ كما جاء في نفس الحديث السابقِ إذا قصد بذلك إظهار نعمة الله عز وجل عليه من غير سرفٍ ولا مخيلة ، ومنه استحباب التجمل والتزين عند الذهاب للمسجد للجمع والجماعات؛ كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ...}[الأعراف : 31] ، ومنه ما كان يَتجمَّلُ به صلى الله عليه وسلم في استقبال الوفود ، ومنه الأقوال والأفعال والأخلاق الطيبة؛ فالكلمة الطيبة من الجمال الذي يحبه الله ، والابتسامة الحانية من الجمال الذي يحبه الله ، والكرم والشجاعة مما يدخل في دائرة الجمال التي يحبها الله وهكذا …فهاهنا فقه إيماني عقدي وهو الإيمان بجمال الله في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، وفقه سلوكي عملي نتعبد لله به، وهو أن نتقرب لَهُ سبحانه بكل قول أو عمل أو خُلُقٍ مما هو جميل ويحبه سبحانه ويرضاه(8) .
5-أما غُلاةُ الصوفية فقد ضلَّوا في هذا الباب بناءً على أصل ضلالهم في العقيدة والتصور؛ فإنهم أطلقوا حُبَّ الله للجمال أيًّا كان بغير ضابطٍ مِنْ دينِ اللهِ ، ولا حَاكمٍ منْ شريعتهِ ؛ فَطَالما أنَّ هذا الشيءَ الجميلَ عِنْدهم خلقٌ من خلق الله ؛ فإنَّ الله يحبه دون نظرٍ للدِّين والشريعة التي بها يُعرف ما يحبه الله ويرضاه مما يبغضه ويسخطه .
ولذلك لا عجب أن ترى غُلاةُ الصوفية يتعبدون لله بالصور الجميلة من النساء والمردان : محبةً و نظراً واستمتاعاً وتلذُّذاً بها-عياذاً بالله- ، وجَعلوا ذلك دِيناً يتقرَّبون به لله؛ مِمَّا يُناقضُ الشريعة الغرَّاء ، ويُغضبُ ربَّ الأرض والسَّماءِ(9).
فالخلاصة إذاً أنَّ الجمال الذي يحبه الله هو كان موافقاً لدينه وشريعته ، وما كان معيناً على طاعته ومرضاته وهذا هو الجمال الذي يُحمدُ عند الله(10).
وأما الجمال المذموم فهو ما كان على نقيض الأول مِمَّا يُخالف دين الله وشريعته كما مضى التمثيلُ سابقاً بما عند غُلاةُ الصوفية ، وما كان للدُّنيا والرِّياسة والفخر والكِبْرِ والتوسُّلِ للشهواتِ(11) .
والنوع الثالث ما لا يُحمدُ ولا يُذمُّ ، وهو ما خلا عن الوصفين السابقين،وهو ما كان في دائرة المباح المحضِّ(12) ؛ كما في النَّظرِ إلى ما خَلقَ الله عز وجل مِنْ جمال الطبيعة وما فيها على سبيل اللَّذة والمتعة المباحة كما قال تعالى في شأنِ الأَنْعامِ : {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}[النحل : 6] .
وأمَّا إذا كان الباعث على ذلك هو التفكر والتأمل في خلق الله ، المثمر لزيادة الإيمان ؛ فهذا لا جرم داخل في الأول مما يحبه الله ويرضاه .
6-الهدْي النَّبوِيُّ الشَّريفُ الجاريُ في عمليةِ تَصحيحِ (المعارفِ) و(التَّصوُّراتِ) التي ينبني عليها (العملُ) و(السُّلوكِيَّات) مِنْ خلالِ بيانِ الحدودِ الشَّرعيةِ التي أنزلها اللهُ عزَّ وجلَّ ؛ فها هو ذا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمِ يُبيِّنُ للرجلِ أَنَّ حدَّ الكبرِ المذمومِ ليس هُوَ أَنْ يكونَ ثوبُ الرجلِ حسناً أو نعلهُ حسنةً ، وإِنَّما هو على الحقيقةِ ماثلٌ في (بطرِ الحقِّ) : أيْ في جحدهِ ودفعهِ ، وفي(غَمْطِ النَّاسِ) : أيْ في ازدراءِ النَّاس واحتقارهِم(13).
وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
الحَديثُ الأَوَّلُ
مَفهومُ الجمالِ وَالكبرِ في ميزانِ الشَّريعةِ
أَوَّلاً : نصُّ الحديثِ :
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِىِّ -صَلى الله عليه وسلم- قَال : «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ». قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ»(1).
ثَانياً : الفوائدُ المستنبطةُ مِنَ الحديثِ :
1-الكِبرُ على نوعينِ: أحدِهما: الكبرِ المباينِ للإيمانِ في أصلهِ ، وهُوَ المُذهبُ لهُ بالكُلِّيَّةِ، وصاحِبُه مُخلَّدٌ في نارِ جهنَّمَ عِياذاً باللهِ ؛ كما قال تعالى في شأنِ الكافرين: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}[الجاثية : 31] ، وهو الواقعُ في كِبرِ إبليسَ ؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة : 34] ، وكِبرِ فرعونَ-أخزاهما اللهُ- ، وفي هذا يقول تعالى: {... إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر : 60] ، وكِبرِ اليهودِ ؛ كما قال تعالى في شَأنِهم: {... أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}[البقرة: 87] .
والآخرِ: الكبرِ المباينِ للإيمانِ الواجبِ الذي لا يستوجبُ دخولَ صاحبهِ في النَّارِ بالكُلِّيَّةِ ، ولكنَّهُ مَتوَعَّدُ بالعذابِ ؛ كما في الحديثِ : (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ) ؛ فإنَّ هذا الكِبرَ موجبٌ لجحدِ الحقِّ الذي ينبغي الإقرارُ بهِ ، ومُوجبٌ لاحتقارِ النَّاسِ ؛ فيكونُ بِذا ظالماً مُعتدياً لهم(2) .
2-في الحديثِ إثباتُ اسمٍ عَظيمٍ مِنْ أَسماء اللهِ الحسنى ؛ ألا وهُوَ (الجميل) ؛ كَما قَرَّرَ ذَلكَ أَهلُ العلمِ(3) .
وَ(الجميلُ) صِيغةُ مبالغةٍ عَلى الوزنِ فعيلٍ ، وَهُو المنتهى في الجمالِ والغَايةُ فيه وَمعناهُ: الغَايةُ في الحُسنِ وَالذَّروةُ فيهِ(4).
3-الفقه الإيماني العقدي لهذا الاسم العظيم يتمثَّل في أن الله جلَّ جلاله جميلٌ في ذاته وجميل في أسمائه وجميل في صفاته وجميل في أفعاله ؛ ومن ثَمَّ يؤمن العبد بهذا كله إيماناً يعقدُ قلبه عليه ؛ فهذا هو الفقه الإيماني العقدي معرفةً بالله وعلماً بأسمائه الحسنى وصفاته العلى(5).
4-أَمَّا الفقه السلوكي فَقائمٌ في محبة العبد المؤمن للجمال الذي يُحبه الله ، وتعبُّده له به(6).
غَيرَ أنَّ السؤال المهم هاهنا : ما هو هذا الجمال الذي يحبه الله ؟ وكيف يُعرفُ ؟ وما أقسام الناس فيه ؟
الجواب على هذا السؤال المهم ينبني على أصل عظيم عند أهل السنة وهو أنهم يُوحِّدون الله جل وعلا بنوعي التوحيد: الربوبية والألوهية ؛ فيؤمنون أنَّه سُبْحَانَهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَكَلُّ مَا فِي الوجودِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ فَبقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِه ، ويؤمنون كذلك بألوهيته الَّتي اخَتصَّ بها عبادَه المؤمنينَ، الَّذين عَبدوه وأطاعَوا أَمرَه، واتَّبعوا رُسَلَهُ ؛ كما قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف : 54] ؛ ولذلك يعتقد أهل السنة أنَّ ما يقدره الله خلقاً وكوناً فيه ما يحبه ويرضاه ، وفيه ما يبغضه ويسخطه ، والحاكم في ذلك شرعه ودينه على ألسنة رسله بما أنزله من كتبه، وهذا هو الصراط المستقيم الذي وضعه الله آمراً إيَّانا باتباعه والسَّير عليه .
وأما غُلاةُ الصوفية فإنهم يؤمنون بنوع واحد من أنواع التوحيد وهو توحيد الربوبية ، ومن هنا يعتقد غُلاةُ الصوفية أَنَّ كل ما يقدره الله خلقا وكوناً فهو مِمَّا يُحبُّه ويرضاه وليس فيه ما يبغضه ويسخطه ، وهذا غاية الانحراف والضلال-عياذاً بالله- الذي أمرنا الله باجتنابه ونهانا عن السير فيه(7) .
إذا فهمنا هذا الأصل العظيم ؛ فأقولُ وبالله التوفيق جواباً عن التساؤل المطروحِ آنفاً:
إنَّ الجمال الذي يحبه الله ليس كما يعتقدُ غُلاةُ الصوفية أَنَّه بإطلاقٍ ؛ وإنما هو الموافق لدينه والمقيَّدُ بشريعته ، ومنه أن يكون نعل الإنسان حسناً وثوبه حسناً ؛ كما جاء في نفس الحديث السابقِ إذا قصد بذلك إظهار نعمة الله عز وجل عليه من غير سرفٍ ولا مخيلة ، ومنه استحباب التجمل والتزين عند الذهاب للمسجد للجمع والجماعات؛ كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ...}[الأعراف : 31] ، ومنه ما كان يَتجمَّلُ به صلى الله عليه وسلم في استقبال الوفود ، ومنه الأقوال والأفعال والأخلاق الطيبة؛ فالكلمة الطيبة من الجمال الذي يحبه الله ، والابتسامة الحانية من الجمال الذي يحبه الله ، والكرم والشجاعة مما يدخل في دائرة الجمال التي يحبها الله وهكذا …فهاهنا فقه إيماني عقدي وهو الإيمان بجمال الله في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، وفقه سلوكي عملي نتعبد لله به، وهو أن نتقرب لَهُ سبحانه بكل قول أو عمل أو خُلُقٍ مما هو جميل ويحبه سبحانه ويرضاه(8) .
5-أما غُلاةُ الصوفية فقد ضلَّوا في هذا الباب بناءً على أصل ضلالهم في العقيدة والتصور؛ فإنهم أطلقوا حُبَّ الله للجمال أيًّا كان بغير ضابطٍ مِنْ دينِ اللهِ ، ولا حَاكمٍ منْ شريعتهِ ؛ فَطَالما أنَّ هذا الشيءَ الجميلَ عِنْدهم خلقٌ من خلق الله ؛ فإنَّ الله يحبه دون نظرٍ للدِّين والشريعة التي بها يُعرف ما يحبه الله ويرضاه مما يبغضه ويسخطه .
ولذلك لا عجب أن ترى غُلاةُ الصوفية يتعبدون لله بالصور الجميلة من النساء والمردان : محبةً و نظراً واستمتاعاً وتلذُّذاً بها-عياذاً بالله- ، وجَعلوا ذلك دِيناً يتقرَّبون به لله؛ مِمَّا يُناقضُ الشريعة الغرَّاء ، ويُغضبُ ربَّ الأرض والسَّماءِ(9).
فالخلاصة إذاً أنَّ الجمال الذي يحبه الله هو كان موافقاً لدينه وشريعته ، وما كان معيناً على طاعته ومرضاته وهذا هو الجمال الذي يُحمدُ عند الله(10).
وأما الجمال المذموم فهو ما كان على نقيض الأول مِمَّا يُخالف دين الله وشريعته كما مضى التمثيلُ سابقاً بما عند غُلاةُ الصوفية ، وما كان للدُّنيا والرِّياسة والفخر والكِبْرِ والتوسُّلِ للشهواتِ(11) .
والنوع الثالث ما لا يُحمدُ ولا يُذمُّ ، وهو ما خلا عن الوصفين السابقين،وهو ما كان في دائرة المباح المحضِّ(12) ؛ كما في النَّظرِ إلى ما خَلقَ الله عز وجل مِنْ جمال الطبيعة وما فيها على سبيل اللَّذة والمتعة المباحة كما قال تعالى في شأنِ الأَنْعامِ : {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}[النحل : 6] .
وأمَّا إذا كان الباعث على ذلك هو التفكر والتأمل في خلق الله ، المثمر لزيادة الإيمان ؛ فهذا لا جرم داخل في الأول مما يحبه الله ويرضاه .
6-الهدْي النَّبوِيُّ الشَّريفُ الجاريُ في عمليةِ تَصحيحِ (المعارفِ) و(التَّصوُّراتِ) التي ينبني عليها (العملُ) و(السُّلوكِيَّات) مِنْ خلالِ بيانِ الحدودِ الشَّرعيةِ التي أنزلها اللهُ عزَّ وجلَّ ؛ فها هو ذا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمِ يُبيِّنُ للرجلِ أَنَّ حدَّ الكبرِ المذمومِ ليس هُوَ أَنْ يكونَ ثوبُ الرجلِ حسناً أو نعلهُ حسنةً ، وإِنَّما هو على الحقيقةِ ماثلٌ في (بطرِ الحقِّ) : أيْ في جحدهِ ودفعهِ ، وفي(غَمْطِ النَّاسِ) : أيْ في ازدراءِ النَّاس واحتقارهِم(13).
وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
مواضيع مماثلة
للمشاركة انت بحاجه الى تسجيل الدخول او التسجيل
يجب ان تعرف نفسك بتسجيل الدخول او بالاشتراك معنا للمشاركة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى